عجائب التربة ديل سوارتزن دروبر*

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عجائب التربة ديل سوارتزن دروبر*

    عندما يسير سكان المدن بسيارتهم في الطرقات التي تخترق الريف و المزارع نجدهم يعجبون بالمحاصيل الزراعية ، و هم يعلمون أنها تخرج من الأرض ،و لكنهم قلما يعيرون التربة التي تنبتها جانباً من الاهتمام . و على نقيض ذلك يهتم الممتازون من الفلاحين و الزراع بأنواع التربة و خواصها ،و لو أننا لا نتوقع من الغالبية منهم أن يقوموا بدارسة علمية لمادة التربة التي يتوقف عليها كسبهم و مستوى معيشتهم .
    و التربة عالم يفيض بالعجائب ، و لكنها عجائب لا يستطيع أن يصل إلى كنهها أو يكشف أمرها إلا العلوم و الدراسة العلمية ،و لذلك فإنني أحب أن أشير هنا إلى خواص التربة بإيجاز .

    و قد لا يستطيع القارئ أن يتابعني بسهولة عند سرد بعض النواحي و المصطلحات الفنية ، إلا أنني واثق من أنه سوف يتفق معي في أن عالم التربة مليء بالعجائب كما أنه سوف تروعه تلك العلاقات المتشابهة العديدة التي لا يمكن أن تكون قد تمت إلا عن تصميم و إبداع ، و لا شك أن ذلك سوف يقود القارئ إلى التفكير في المبدع الأعظم .

    فلننظر إلى التربة لكي نرى كيف تنتج من عوامل التعرية، وقد قسمت نواتج هذه العوامل إلى أقسام : فهنالك الطبقة المتخلفة السفلى تعلوها الكتل المتخلفة ثم فوق ذلك طبقة التربة . و جميع الطبقات تنتج من عملية التفتيت و التكسير التي تسببها عوامل التعرية . و للتربة أهمية خاصة بالنسبة لنا لأنها مصدر المواد الغذائية الهامة التي يحصل عليها النبات في أثناء نموه ، كما أنها ضرورية لتثبيت النباتات الأرضية فوق سطح الأرض .

    فعندما تتعرض الصخور النارية لعوامل التفتت تزول عنها تدريجياً القواعد القابلة للذوبان في الماء مثل الكلسيوم و الماجنيزيوم و البوتاسيوم ، و تتبقى أكاسيد السليكون و الألومونيوم و الحديد مكونة الغالبية الكبرى من التربة ، و لا يحب هذه العملية انخفاض كبير في المنسوب الفسفوري ، بينما يترتب عليها عادة ارتفاع في نسبة النيتروجين .

    و يؤدي تحلل عناصر السليكات الأصلية بتأثير عوامل التفتت هذه إلى تكون الصلصال ، و يشتمل الصلصال في المناطق المعتدلة و الباردة على نسبة كبيرة من السليكات غير المتبلورة و على كميات ضئيلة من غير السليكات ، أما في المناطق الاستوائية فترتفع في الصلصال نسبة الأكاسيد الطليقة و الأكاسيد المائية و الألومونيوم .

    و من الخواص الهامة للصلصال قدرته على تبادل الأيونات الموجبة (الكتيونات ) ، إذ تمكنه هذه الخاصية من الاحتفاظ بالقواعد القابلة للذوبان و اللازمة لنمو النبات و يؤدي ذلك إلى عدم انخفاض نسبة هذه المواد بالتربة انخفاضاً كبيراً أو انعداماً كلياً ، ومن ذلك نرى أن عمليات التفتت تؤدي من جهة إلى فقدان بعض المواد القاعدية القابلة للذوبان ،و لكنها تقدم في نفس الوقت طريقة أخرى للمحافظة على هذه المواد .

    و لا يتسع المقام لتناول العناصر الغذائية الأخرى اللازمة لحياة النبات فلننظر إذن إلى مشكلة أخرى و هي كيف الله المدبر الأعظم هيأ الظروف المناسبة لنمو النباتات في الأحقاب الجيولوجية القديمة ، و علم على استمرار حياتها و بقائها .

    فإذا سلمنا بأن هذه النباتات القديمة كان لها نفس الاحتياجات الغذائية مثل النباتات الحالية ، فلابد أن تكون القواعد القابلة للذوبان و كذلك المواد الفسفورية قد وجدت بكميات أكبر مما توجد عليه الآن . أما بالنسبة للنيتروجين فإن الوضع يختلف ، فالنباتات تحتاج إلى قدر كبير من المواد النيتروجينية ، و مع ذلك فإن قدرة التربة القديمة على الاحتفاظ بهذه المواد كانت ضعيفة . فكيف كانت النباتات الأولى تحصل إذن على حاجاتها من النيتروجين ؟

    هنالك شواهد تدل على أن الصخور النارية التي لم تتأثر بعوامل التفتت تحتوي على قدرة من النتروجين النشادري . و من الممكن أن تكون النباتات الأولى قد استفادت من هذا المصدر . و لكن هنالك مصادر أخرى غير ذلك ، هنالك البرق مثلاً ، وقد يظن كثير من الناس أن البرق يؤدي إلى تكوين أكاسيد النيتروجين التي تحصل عليها التربة بهذه الطريقة في صورة نترات بما يقرب من خمسة أرطال للفدان الواحد سنوياً ، وهو ما يعادل ثلاثين رطلاً من نترات الصوديوم ، وهذه كمية تكفي لبدء نمو النباتات.

    و يلاحظ أن كمية النيتروجين الذي يثبته البرق تكون في المناطق الاستوائية أكثر منها في المناطق الرطبة ، و هذه بدورها تزيد على الكمية التي تتكون في المناطق الصحراوية .

    و من ذلك نرى أن النتروجين يوزع على المناطق الجغرافية المختلفة بصورة متفاوتة تبعاً لمدى احتياج كل منطقة منها لهذا العنصر الهام .

    فمن الذي دبر كل ذلك ؟ إنه المدبر الأعظم .

    وعندما نتحدث عن المدبر الأعظم ، هل من الممكن أن نستدل بما بين النباتات و التربة من علاقات متشابكة و توافق عجيب متشابكة و توافق عجيب على وجود تدبير و غرض واضح في الطبيعة ؟ إننا لا نستطيع أن نجيب على هذا السؤال دون أن نتدبر مقتضياته بالنسبة لدائرة العلوم كلها .

    إن العلماء قد لا يستطيعون أن يتفقوا على تعريف واحد للطريقة العلمية ، و لكنهم متفقون جميعاً على أن العلوم تستهدف كشف قوانين الطبيعة . و لابد للمشتغل بالعلوم أن يسلم أولاً بوجود هذه القوانين حتى لا يكون متناقضاً مع نفسه . و قد أصبح من المحال أن ينكر أحد وجود هذه القوانين بعد اكتشاف الإنسان الكثير منها في ضمن ميادين البحث و من الطبيعي أن يتساءل الإنسان بعد كل ذلك : لماذا وجدت هذه القوانين ؟ و لماذا قامت بين الأشياء المختلفة ،ومن بينها التربة و النبات ، تلك العلاقات العديدة التي تتسم بذلك التوافق الرائع بين القوانين مما يؤدي إلى تحقيق النفع و الفائدة ؟

    إننا نعترف بأننا وقد وصلنا إلى هذا الحد من التفكير قد اقتربنا من الحد الفاصل بين العلوم و الفلسفة . فكيف نفسر كل ذلك النظام و الإبداع الذي يسود هذا الكون ؟

    هنالك حلان :فإما أن يكون هذا النظام قد حدث بمحض المصادفة، و هو مالا يتفق مع المنطق أو الخبرة ، و مالا يتفق في الوقت نفسه مع قوانين الديناميكا الحرارية التي يأخذ بها الحديثون من رجال العلوم . و إما أن يكون هذا النظام قد وضع بعد تفكير و تدبر ، و هو الرأي الذي يقبله العقل و المنطق . و هكذا نرى أن العلاقة بين النبات و التربة تشير إلى حكمة الخالق و تدل على بديع تدبيره .

    و أنا واثق أن الأخذ بهذا الرأي سوف يثير انتقاد المعارضين لهذا الاتجاه ممن لا يؤمنون بوجود الحكمة أو الغرض وراء ظواهر الطبيعة و قوانينها ، و معظم هؤلاء ممن يأخذون بالتفسيرات الميكانيكية و يظنون أن النظريات التي يصلون إليها في تفسير ظواهر الكون تمثل الحقيقة بعينها و لكن هنالك من المسوغات ما يدعو إلى الاعتقاد أن ما وصلنا إليه من التفسيرات و النظريات العلمية ليس إلا تفسيرات مؤقتة ، وليست لها صفة الإطلاق أو الثبات . فإذا ما سلمنا بهذا الرأي تضاءل خطر المعارضين في غرضية الكون أو وجود غاية منه ، فمما لاشك فيه أن هنالك حكمة و تصميماً وراء كل شيء سواء في السماء التي فوقنا أو الأرض التي من تحتنا . إن إنكار وجود المصمم و المبدع الأعظم يشبه في تجافيه مع العقل و المنطق ما يحدث عندما يبصر الإنسان حقلاً يموج بنباتات القمح الصفراء الجميلة ثم ينكر في نفس الوقت وجود الفلاح الذي زرع و الذي يسكن في البيت الذي يقوم بجوار الحقل .

    *ـ إختصاصي فيزياء التربة ـ حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة أبووا ـ أستاذ بجامعة كاليفورنيا ـ عضوا جمعية علم التربة أمريكا ـ اختصاصي في تركيب التربة و حركة الماء بها .

    المصدر : عن كتاب "الله يتجلى في عصر العلم .."fقلم : جون كلوفر مونسما ترجمة الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان الناشر مؤسسة الحلبي و شركاه للنشر و التوزيع القاهرة .

    coo)l)
يعمل...
X